الصين في الفضاء السيبراني: شراكة في العلن.. اختراق في الخفاء

الصين في الفضاء السيبراني: شراكة في العلن.. اختراق في الخفاء

في عصر تتراجع فيه الجيوش وتتقدم فيه القوى غير المرئية، تظهر الصين كلاعب رئيسي في حرب غير تقليدية. تمتد هذه الصراعات السيبرانية من فيتنام إلى واشنطن، ومن تايبيه إلى الرياض – ليس فقط لسرقة البيانات، بل لإعادة رسم ميزان القوى العالمي. 

على الرغم من النفي الرسمي المتكرر، تكشف الأدلة المتزايدة عن نمط من العدوان الرقمي المقنع بالدبلوماسية، ففي اجتماع سري عقد في جنيف عام 2023، اعترفت الصين بشكل نادر بانخراطها في أنشطة تجسس سيبراني ضد منشآت أمريكية – رغم إنكارها السابق.

هذه الاعترافات المحدودة لا تشير إلى تحوّل نحو الشفافية، بل تُستخدم كورقة مساومة استراتيجية يتم تفعيلها عند الحاجة، حيث مدّ الصين يدها لتقديم شراكات رقمية براقة، بينما تخفي اليد الأخرى أدوات تجسس متطورة. هذا السلوك المزدوج يرسّخ صورة الصين كقوة تعمل في الظل، تهدف إلى توسيع نفوذها بكل وسيلة ممكنة.

آسيا في مرمى النيران

تتبع الهجمات السيبرانية الصينية نمطًا جغرافيًا واستراتيجيًا واضحًا:

• الدائرة الأولى: الدول المجاورة مثل فيتنام، الفلبين، تايوان، إندونيسيا، وسنغافورة.

• الدائرة الثانية: الولايات المتحدة، التي تُعد المنافس الاستراتيجي الأول.

• الدائرة الثالثة: الدول الأوروبية وغيرها من الدول المنخرطة في التنافس العالمي والشريكة مع أمريكا والغرب.

من أبرز الأمثلة على هذه الهجمات:

• في عام 2015، اخترقت مجموعة القرصنة الصينية “1937CN” أكثر من ألف موقع إلكتروني في فيتنام.

• في عام 2016، تم اختراق موقع شركة الطيران الفيتنامية.

• في عام 2021، استهدفت مجموعة “Mustang Panda” العشرات من الوزارات والوكالات التايوانية.

• في عام 2024، تعرضت نيوزيلندا لهجوم سيبراني واسع على بنيتها التحتية الحكومية، نُسب لاحقًا إلى جهات صينية مدعومة من الدولة.

• وفي أوائل عام 2024، استُهدفت بنوك سعودية بحملة برمجيات خبيثة تُعرف باسم “Solar Spider”، والتي ربطها خبراء الأمن السيبراني بجهات صينية تسعى لاختراق الأنظمة المالية وسرقة بيانات حساسة.

تُظهر هذه الحوادث أن الهجمات ليست عشوائية، بل هي مدروسة ومخطط لها بعناية، وغالبًا ما تتزامن مع توترات دبلوماسية كبرى أو تطورات سياسية – مثل التصعيد السيبراني الكبير عقب زيارة نانسي بيلوسي لتايوان في أغسطس 2022.

أما التمدد نحو الخليج، لاسيما في القطاعات المالية الحساسة، فيعكس بوضوح أن لا دولة خارج نطاق الطموحات الرقمية لبكين.

 تقدم الصين نفسها كحليف استراتيجي لدول الخليج – من خلال الاستثمارات والبنية التحتية والتكنولوجيا المتقدمة – لكن هذا لم يوقف الاختراقات الرقمية الخفية، هذا التناقض يكشف عن نوايا أعمق: أن تكون شريكًا ومراقبًا في آن واحد، حيث تغرس آليات المراقبة والسيطرة داخل الأنظمة التي تساعد على بنائها. فما يبدو تعاونًا على السطح قد يكون في الواقع محاولة مدروسة لإدخال هذه الدول في تبعيات رقمية تضعف سيادتها السيبرانية. ففي عالم الفضاء الإلكتروني، قد تكون الصداقة مجرد واجهة – والاختراق هو الهدف الحقيقي.

الفضائح الرقمية والإنكار

ترتبط الهجمات السيبرانية الصينية بشكل وثيق بطموحاتها الجيوسياسية، حيث تمنح الحرب السيبرانية بكين عدة مكاسب:

• السيطرة على المعلومات من خلال اختراق وسائل الإعلام والمنصات الحكومية.

• تعطيل الاستجابة للطوارئ عبر استهداف أنظمة حيوية مثل شبكات المياه والطاقة، كما حدث في بعض الحالات الأمريكية.

• الردع غير المعلن، حيث تُستخدم الهجمات الرقمية كوسيلة لإظهار القوة دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية علنية.

ووفقًا لتحليلات وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، تهدف هذه الهجمات إلى اختبار جاهزية الولايات المتحدة في حال تصاعد التوتر العسكري حول تايوان. لذا تُستهدف غالبًا البنية التحتية الحيوية للطاقة والاتصالات، لقياس قدرة أمريكا على التعبئة أثناء الأزمات.

ورغم استمرار الصين في تبني موقف علني ينكر هذه الهجمات، تؤكد الاجتماعات السرية والتسريبات الاستخباراتية – مثل تلك التي نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال – تورط بكين. هذا الانتقال من عمليات الظل إلى اعترافات خافتة يدفع واشنطن إلى إعادة تقييم استراتيجيات الدفاع الرقمي.

من السرقة إلى الردع

تتراوح الهجمات السيبرانية في شدتها – من سرقة البيانات إلى شلل المؤسسات، وصولًا إلى تعطيل البنية التحتية المدنية. ووفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن “الاقتحامات المتكررة للبنية التحتية الوطنية الحيوية قد تُعتبر أفعالًا حربية”.

والأكثر إثارة للقلق هو التناقض الصارخ بين اعتراف الصين في الاجتماعات الخاصة – مثل اجتماع جنيف السري – بانخراطها في هذه الهجمات، وبين إنكارها العلني المستمر، غالبًا عبر نسب العمليات إلى “هاكرز مستقلين”. هذا التناقض لا يكشف فقط عن استراتيجية اتصالية مضللة، بل يعزز أيضًا صورة الصين كفاعل لا يمكن التنبؤ به، يوظف السرديات لخدمة أهدافه الجيوسياسية. وبالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، فإن هذا النهج المخادع يثير تساؤلات ملحّة حول مصداقية الدبلوماسية الرقمية لبكين – وقواعد الاشتباك في عصر سيبراني تغيب فيه الحدود وتتداخل فيه الحقائق.

رغم أن معظم التركيز في الهجمات السيبرانية ينصب على المحيط الهادئ والغرب، إلا أن دول الخليج ليست بمنأى عن هذا الصراع. فمع تعمّق الشراكات الصينية في مجالات مثل شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية، تبرز تساؤلات حول السيادة السيبرانية. هل تستطيع هذه الدول حماية بياناتها الحساسة من كيانات مرتبطة بالحزب الشيوعي الصيني؟ فالتكنولوجيا الصينية لا تأتي محايدة – بل غالبًا ما تكون وسيلة لنشر النفوذ. والثقة العمياء قد تُترجم يومًا ما إلى هشاشة رقمية يصعب ترميمها.

تتجاوز تداعيات الحرب السيبرانية الصينية الحكومات، لتستهدف الآن الشركات التكنولوجية العالمية وسلاسل الإمداد الحيوية، خاصة مع تصاعد التوتر مع تايوان.

وفقًا لمكتب الأمن القومي التايواني، تعرضت الجزيرة التايوانية في عام 2024 لمتوسط 2.4 مليون هجمة سيبرانية يوميًا – ما يعكس حجم التصعيد الرقمي المتزايد.

وتشكّل هذه الحرب تهديدًا مباشرًا للاقتصاد العالمي. فخرق واحد في سلسلة التوريد كفيل بشلّ المصانع أو تأخير الشحنات الكبرى – كما شهد العالم في أزمات نقص الرقائق الإلكترونية.

محور رقمي مقلق

في ظل التوترات العالمية المتزايدة، تتعمّق الشراكة السيبرانية بين بكين وموسكو لتضيف بُعدًا جديدًا للقلق. وبحسب مجلس العلاقات الخارجية، تتشارك الدولتان أدوات تجسس رقمية وبرمجيات خبيثة، مما يعزز قدراتهما الهجومية ويسهّل اختراق الأنظمة الغربية.

ولا تقتصر تداعيات هذا التحالف على الغرب فقط. ففي الخليج – حيث يجري تسريع رقمنة القطاعات الحيوية وتعزيز العلاقات مع الصين – تتضاعف المخاطر. فاندماج البنية التحتية الصينية مع أساليب الحرب السيبرانية الروسية قد يُنتج تهديدًا هجينًا يصعب رصده وردعه. وفيما تقدّم موسكو الخبرة الهجومية، تفتح بكين الأبواب عبر شراكاتها التقنية، مما يجعل دول الخليج أكثر عرضة لاختراقات خفية تحت ستار التعاون. هذا التحالف لا يغيّر فقط ميزان القوى الرقمي – بل يقرّب جبهات الصراع إلى قلب العالم العربي الرقمي.

ما يجعل الحرب السيبرانية الصينية خطرة بشكل خاص ليس قوتها فحسب، بل غموضها أيضًا. فبكين تتقن التلاعب بالمسافة بين الفعل والإنكار، بين الردع والتجسس، بين التجريب والتصعيد.

ويفرض هذا الشكل الجديد من النزاع على العالم إعادة تعريف مفاهيم “الهجوم” و”الرد”، ودفع الدول لتحديث دفاعاتها الرقمية.

في عصر المعلومات، لم تعد القوة تقاس بعدد الفرق العسكرية – بل بعدد الثغرات التي يمكن زرعها في أنظمة العدو.

الخليج في ظل الهيمنة الرقمية الصينية

مع تصاعد التهديدات السيبرانية، تتجه الأسرة الدولية تدريجيًا نحو بناء أطر جماعية للدفاع الرقمي. ويشمل ذلك مبادرات تقودها الأمم المتحدة ومؤتمرات دولية حول الأمن السيبراني، خاصة في جنيف وبروكسل.

وتسعى برامج مثل “الأمن السيبراني والتقنيات الجديدة” التابع لمركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب إلى وضع معايير قانونية وسياسية لمحاسبة الجهات المنفذة للهجمات.

رغم أن الهجمات السيبرانية الصينية استهدفت في الغالب تايوان والولايات المتحدة والدول المجاورة، إلا أن الشرق الأوسط لم يكن بمنأى عن هذا الميدان الخفي. فمع توسع العلاقات الاقتصادية والتقنية بين دول الخليج والصين – خاصة في مجالات البنية التحتية والاتصالات – بدأ النفوذ الرقمي الصيني بالتسلل بهدوء إلى قلب الأنظمة الإدارية العربية.

ويطرح هذا التوسع المتزايد، خصوصًا في شبكات الجيل الخامس وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، تساؤلات ملحة: إلى أي مدى تستعد دول الخليج لحماية سيادتها السيبرانية إذا ما نشأت توترات استراتيجية مع بكين؟ وهل يمكن للبيانات الحساسة أن تبقى آمنة من شركات مرتبطة بالحزب الشيوعي الصيني؟

فالصين لا تقدم التقنية فقط – بل تنشر النفوذ من خلالها. والتجارب تُظهر أن من يتبنى أدواتها الرقمية قد يجد نفسه لاحقًا تحت أعينها المراقبة – أو هدفًا سهلًا إذا تغيّرت المصالح السياسية.

إن أمن الخليج السيبراني لا يقل أهمية عن أمن حدوده الجغرافية. والثقة العمياء بشريك يستخدم الفضاء الرقمي كسلاح، تستحق إعادة النظر، ففي الحرب الرقمية، لا وجود لشراكات دون شروط – بل مصالح متقاطعة قد تنفجر في أي لحظة، فيما تكشف الاستراتيجية الصينية المزدوجة – بين تقديم الشراكات الرقمية وتنفيذ الاختراقات الخفية – عن مفارقة: شريك قد يكون أيضًا مفترسًا!

وفي مناطق مثل الخليج، حيث تعتمد البنية التحتية والإدارة أكثر فأكثر على التكنولوجيا الصينية، تصبح المخاطر أعلى من أي وقت مضى. في الحرب السيبرانية، لا توجد شراكات دون شروط – بل تقاطعات مصالح… قد تتصادم في أي لحظة.

نقلًا عن موقع الدستور المصري

سارة شريف – باحثة مصرية

الكويت بوست ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة الكويتية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.

اخبار تهمك